بقلم الشيخ بشير طبابي
الحمــد للّـه ربّ الأرض وربّ السّمـاء . خلــق آدم وعلّمــه الأسمــاء .وأسجــد لـه مـلائكتـه . وأسكنــه الجنّــة دار البقــاء . وحــذّره مـن الشيطـان ألــدّ الأعــداء . ثــمّ أنفــذ فيـه مـا سبــق بـه القضــاء . فأهبطــه إلـى دار الابتــــلاء . . ونـزل القـرآن لمـا فـي الصّـدور شفــاء فـأضـاءت بـه قلـوب العـارفيـن والأتقيّـاء . و أشهــد أن لا إلــه إلاّ اللّـه وحــده لا شـريـك لــه تـرطّبـت بــآيـاتـه ألسنــة الـذّاكـريـن والأوليّـاء . ونهــل مـن فيـض نـوره العلمـاء والحكمــاء . نحمــده تبـارك وتعـالـى علـى النعمــاء والسـرّاء . وستعينـــه علـى البـأســاء والضـرّاء . ونسألــه أن يسلــك بنـا طــريــق الأوليّـاء الأصفيّــاء . وأشهــد أنّ سيّـدنـا محمّــدا خــاتــم الـرّســل والأنبيّـــاء وإمــام المجـاهـديــن والأتقيّــــاء . صلّـى اللّـه عليــه وسلّــم . دعـــا أصحــابــه إلـى الهــدى فلبّـــوا النّـــداء . فكــان رحمــة لهــم ونــور . صلّـى اللّـه عليـه وسلّــم قـديمــا وكــذا المــلائكــة فـي السّمــاء . اللّهـــمّ صلّ وسلّـــم وبــارك عليــه وعلــى آلـــه وصحـــابتـــه الأجــــلاّء . وعلـى السّـائــريــن علـى دربـــه والـدّاعيــن بــدعــوتــه إلـى يــوم اللّقــــاء . مـا تعـاقــب الصّبــح والمســـاء ومـا دام فــي الكــون ظلمــــة وضيــــاء .
أحبّتـي فـي اللّـه . سنـواصل الحـديث فـي هــذه المقال من « أنـوار التنـزيـل » على ســورة الفـاتحـة لا شــكّ أنّ مـن تــدبّـر الفـاتحـة الكـريمــة رأى مـن غزارة المعـانـي وجمـالهـا وروعــة التّنـاسـب وجــلالـه مـا يـؤخــذ بلبّــه ويضــيء جــوانــب قلبــه فهــو يبتــدئ ذاكــرا تــاليــا متيمّنــا بســـم اللّــه المـوصــوف بالــرّحمــة الّتـي تظهــر آثــارهـا متجـــددة فـي كــلّ شــيء .
فإذا استشعــر المـــؤمــن هــذا المعنــى ووقــر فــي نفســه إنطلــــق لســانــه بحمـــد هـذا الإلــه الـرّحمــان الرّحيـــم وذكّــره الحمــد بعظيـــم نعمـه وكــريــم فضلــه وجميــل آلــه البـاديــة فـي تـربيتــه للعــوالــم جميعــا ، فأجــال المــؤمـن بصيــرتــه فـي هــذا البصيــر الّـذي لا ســاحـل لــه ثــمّ تــذكّر مـن جـديـد أنّ هــذه النّعــم الجـزيلــة والتـربيـة الجليلــة ليســت عـن رغبــة ولا رهبــة ولكنّهـا عـن تفضّـل ورحمــة ، فنطـق لسـانـه مـرّة ثـانيـة بالـرّحمـان الـرّحيـم .
ومـن كمـال هـذا الإلــه العظيــم أن يقـرن الـرّحمـان بالعـدل ويـذكّـر بالحسـاب بعـد الفضـل فهـو مـع رحمتــه السّـابغـة المتجـدّدة سيـديـن عبـاده ويحـاسـب خلقته يـوم الـدّيـن « يـوم لا تملـك نفـس لنفـس شيئـا والأمـر يـومئـذ للّـه – سعـد الغـامدي » .فتـربيتـه لخلقــه قـائمـة علـى التـرغيـب بالـرّحمـة والتـرهيـب بالعـدالــة والحســاب مـالـك يــوم الـدّيــن وإذا كـان الأمـر كـذلـك فقــد أصبـح العبـد مكلّفـا بتحـرّي الخيـر والبحـث عـن وسـائـل النّجـاة وهـو فـي هـذا أشـدّ مـا يكـون حـاجـة إلـى مـن يهـديــه ســواء السّبيـل ويـرشـده إلـى الصّـراط المستقيــم .
وليـس أولـى بـه فـي ذلــك مـن خـالقـه ومـولاه فيلجــأ إليـه وليعتمـد عليـه وليخـاطبـه بقـولـه « إيّـاك نعبـد وإيّـاك نستعيـن » ، وليسـألـه الهـدايـة مـن فضلـه إلـى الصّـراط المستقيــم صـراط الّذيـــن أنعـــم عليهـــم بمعـرفـة الحـقّ واتّبـاعهـم غيـر المغضـوب عليهـم بالسّلــــب بعـــد العطــــاء والنّكـــوص بعــد الإهتــداء وغيـر الضّـاليــن التّـائهيــن الّذيـن يضلّــون عـن الحــق يـريـدون الـوصـول إليـه فـــلا يـوفّقـــون للعثـور عليــه .
آميــن ولا جــرم أنّ آميــن ضــراعـة مقطــع فـي غـايـة الجمـال والحســن وأيّ شــيء أولـى بهـذه البـراعـة مـن فـاتحــة الكتـاب والتّـوجّـه إلـى اللّـه بالــدّعـاء . وقولــه فــي الحديــث : « قسمـــت الصـــلاة بينــي وبيــن عبــــدي » يعنــي الفاتحــة ، وسميــت صــلاة لأن الصــلاة لا تصـــح إلا بهـــا ، كقولـــه صلّـى اللّـــه عليه وسلــــم – الحــج عرفـــة ، فبيّــن الحديــث أن اللّـــه عــــز وجــل قــد قســـم هـــذه السورة العظيمـــة بينـــه وبيـــن عبــده نصفيــن ، فهـــو سبحانـــه له نصف . الحمــد والثنــاء والتمجيــد ، والعبـــد لــه نصــف . الدعـــاء والطلــــب والمسألـــة ، فـــإن نصفهـــا الأول مـــن قولـــه سبحانـــه « الحمـــد للّــه رب العالميــــن » إلــى قولــه « إيّــاك نعبـــــد » تحميـــد للـّــه تعالــــى ، وتمجيــــد لــه ، وثنـــاء عليـــه ، وتفويــــض الأمـــر إليـــه ، ونصفهـــا الثانـــي مـــن قولـــه تعالــى « وإيـــــاك نستعيـــن » إلـــى آخـــــر الســـورة ، ســـؤال وطلـــب وتضــــرع وافتقـــار إلـــى اللّـــه، ولهـــذا قــال سبحانـــه بعـــد قولــه « إيّـــاك نعبــــد وإيّـــاك نستعيـــن » وهـــذه بينـــي وبيــــن عبــــدي .
وختمـــت الســورة بالدعــاء بأهــم ما يحتاجــه العبــد فــي دينــه ودنيـــاه ، فــإن حاجــة العبــد إلــى أن يهديــه اللّــه الصــراط المستقيــم ، أعظــم مــن حاجتــه إلــى الطّعــام والشراب والنَّفَـــس ، فهـــو مضطر إلــى مقصــود هــذا الدعــاء ، ولا نجــاة مــن العــذاب ولا وصــول إلــى السعــادة إلا بهــذه الهدايــة . فهـل رأيـت تنـاسقـا أدقّ أو ارتبـاطـا أوثـق مّمـا تــراه مـن بيـــن معـانـي هـذه الآيــة الكـريمـة تـذكّـر أخـي الكـريـم وأنـت تهيـم فـي أوديـــة هـذا الجمـال .
وأدم هــذا التــدبيــر والإنعــــام أن تقــرأ فــي الصّــلاة وغيــرهـا علـى مكــــث وتمهّـــــل وخشـوع وتــذلّــل وأن تقــف علـى رؤوس الآيـــــات وتعطــي التّــلاوة حقّهــا مـن التجــويــد أو النّغمـــــات مـن غيــر تكلّــــف واشتغــال بالألفــاظ عـن المعــــانــي فإنّ ذلـك يـعيـــــن عـــن الفهــــم مـا غــاب مـن شآبيــب الــدّمـــع ومـا نفـــع القلـــــب شــيء أفضــــل مــن تـــلاوة فــي تــــدبّــــر وخشــــوع . واللّـه ورسـولـه أعلــم . أســأل اللّــــه العلـــيّ العظيـم أن يجعــل القـرآن العظيـــــم ربيــع قلــوبنـا . وجــــلاء أحــــزاننــــا وذهــاب غمــــومنــا . نسألــه تخـلّقــــه وحفظـــه والعمــل بــه والجهــاد تحــت لــوائــه . ونستــودعكــم اللّــه الّـذي لا تضيــع ودائعــه والسّـلام عليكــم ورحمــة اللّـه وبـركـاتـه .
كلمات البحث :الشيخ بشير طبابي;من انوار التنزيل
نعلم قراءنا الأعزاء أنه لا يتم إدراج سوى التعليقات البناءة والتي لا تتنافى مع الأخلاق الحميدة
و نشكر لكم تفهمكم.