لوحظ منذ مدة تراجع تسعير الدينار التونسي مقابل بعض العملات الأجنبية على غرار اليورو والدولار الامريكي الى حد تجاوز الحد النفسي وهو ديناران للعملة الاولى و1,60 دينار للعملة الثانية مما جعل العديد من المتابعين للشأن النقدي و المالي يبرزون مخاوف من التخفيض في قيمة الدينار باعتبار عدم بلوغ نسب النمو المستوى المطلوب وشدة الطلب على العملات الاجنبية لتغطية عمليات التوريد اضافة الى تنامي الضغط على الميزان التجاري وعدم رجوع قطاعات التصدير والسياحة الى نسق نشاطهما المعهود.
في خضم هذه التحديات، لا يمكن التغاضي على اعتبار ازمة تراجع الدينار معضلة هيكلية ترجع جذورها الى سنوات عديدة كما يمكن ايجاد تفسير نسبي لها من خلال تحليل مبسط لمنظومة الصرف المعتمدة ببلادنا .
لمحة موجزة حول نظام الصرف التونسي
تنقسم أنظمة الصرف الى ثلاث انواع : الأنظمة المحددة ،الأنظمة الوسيطة والأنظمة المعومة وللتبسيط فان الاختيار بينها يرتبط بدرجة انفتاح الاقتصاد على الخارج وبسيادة العملة اي قابليتها المطلقة للتحويل وكذلك بمستوى التحوط والتوقي من الهزات النقدية والاقتصادية داخليا وخارجيا .
ويشكل نظام الصرف ، عموما ، اداة للمحافظة على استقرار الأسعار وللحفاظ على توازن ميزان الدفوعات اضافة الى توفير مناخ ملائم للاستثمار والتزود بالمواد الاساسية اللازمة لضمان الاستمرارية الدورة الاقتصادية بشكل متناسق لاسيما على المستوى القطاعي .
وحسب تقييمات جل المؤسسات المالية الدولية فان نظام الصرف التونسي يصنف في خانة الانظمة المعومة وذلك بمعنى أن تسعيرة الدينار التونسي ترتبط بقيمة عدد من العملات الاجنبية المرجعية وهو مسير بالكامل من قبل البنك المركزي التونسي في سياسة حذرة تسعى من خلالها السلط النقدية الحفاظ على مستوى الاحتياطي من العملات الاجنبية ، من ناحية ، وتأمين ايداعات الدولة التونسية من النقد الأجنبي خارجيا ، من ناحية أخرى .
وبطبيعة الحال فقد شهدت المنظومة عدة تطورات بدأت بتخفيض قيمة الدينار سنة 1986 وتواصلت بإقرار قابلية العملة الوطنية للتحويل الجزئي سنة 1992 وذلك من خلال تمكين بعض المستثمرين والأفراد من فتح حسابات بالعملات الاجنبية في اطار شروط معينة تيسيرا لمبادلاتهم مع الخارج لنصل اليوم الى اقرار البنك المركزي منذ سنة 2012 لعدد من الإجراءات تتمحور أساسا حول تحديد نسبة الصرف المرجعية المعتمدة من قبل مؤسسات القرض بالنظر لمعدلات التداول اليومي للضغط على مستوى تدحرج الدينار.
وعلى الرغم من كل المحاولات لضمان توازن العملة الوطنية فان تسعيرتها اليوم مقارنة باليورو (2,275) وبالدولار (1,661) بالخصوص تبقى مضطربة و متأرجحة رغم تحسنها في المدة الاخيرة على عدد من الاصعدة اولها احتمال تزايد العجز التجاري خصوصا في ظل الازمة المالية العالمية الخانقة دون اعتبار عدم تجاوز تغطية الصادرات التونسية للواردات بنسبة تقدر في موفى نوفمبر ب70% وإمكانية الضغط على هوامش بعض المؤسسات الصغرى والمتوسطة المصدرة نظرا لضعف ادماج منتجاتها الموجهة للتصدير و التي لا تفوق 40% عموما وهي معضلة هيكلية تنخر نسيجها منذ عقود .
كما يتبين كذلك من خلال عديد الدراسات النقدية أن تعاملات الاقتصاد الوطني مرتبطة الى حد مهم باليورو (من 65 الى 81%) وبدرجة اقل بالدولار الأمريكي (من19 الى 35%) مع طغيان التبادل مع الاتحاد الاوروبي بصفة عامة .
تداعيات لانخفاض تسعيرة الدينار على الاقتصاد الوطني
في الحالات العادية ، يساهم انخفاض سعر الدينار مقابل العملات الاجنبية المرجعية للتبادل في دفع زخم التصدير والتقليص من العجز الجاري للدفوعات غير ان الوضعية المتأزمة نسبيا في تونس حاليا على مستوى الانتاج والتضخم الذي يبقى مستواه مرتفعا (5,8%) رغم انحساره المتواصل خلال الاشهر الماضية ، يجعل من الضغط على الدينار مصدر شد على مستوى الاحتياطي من العملة الاجنبية الذي لم يشهد رغم كل الصعوبات هبوطا كبيرا نظرا لتطور نسق الصادرات بصفة طفيفة مقابل الواردات التى انحسرت الى حد ما رغم اهميتها كما وكيفا.
وتجدر الاشارة ، في هذا السياق ، إلى أن تونس ورغم توخي سياسة نقدية حذرة تعاني من انعكاسات ازمة منطقة اليورو باعتبار انخفاض نسب النمو والاستهلاك بها وهو ما انعكس على الطلب فيها على المنتوج التونسي اضافة الى الصعوبات التى تشهدها في خصوص التصرف في ازمة ديونها السيادية غير ان القلق الذي يعيشه اليوم المتابع للمسالة المالية يتمثل بالأساس في ازدياد ارتفاع اسعار المواد الاولية على الاسواق العالمية لاسيما المواد الطاقية والإنشائية والمعادن فضلا عن احتمال ارتفاع خدمة الدين الخارجي لتونس رغم تركزها بالأساس وبنسبة 75% على فوائد قارة .
وفي المقابل ، من الممكن ان تؤدي الوضعية الى ارتفاع نسق الاستثمارات الاجنبية الخارجية التى بلغ دفقها في اخر اكتوبر 1626,6 مليون دينار كما يحتمل ، في صورة استقرار الاوضاع وتحسنها ، تحسن ايرادات القطاع السياحي وتوفر ظروف افضل على صعيد مناخ الاعمال مم يمكن ان يجعل من تونس وجهة تنافسية مناسبة .
هوامش تحرك السلط النقدية
يجدر التذكير أن المهام الرئيسية للسلطة النقدية تتمثل اساسا في اصدار العملة وفق معايير ترتبط بنمو الناتج الوطني والحفاظ على قيمتها اضافة الى التركيز على ضمان التوازنات المالية الكبرى بالبلاد ومن هذا المنطلق فان المسؤولية الملقاة على عاتق البنك المركزي التونسي بصفته الممثل للسلطة النقدية والمالية الاساسية بالبلاد تبقي جسيمة .
من هنا ، تبرز وجهتين للمؤسسة المذكورة للتحرك اولها دفع الاستثمار بشتى أصنافه بالاعتماد اساسا على البنوك التي يتعين عليها الانخراط في هذا التوجه مع مراعاة البحث عن المشاريع المجدية على مستوى الربحية وذات المخاطر الضعيفة وثانيها تحفيز الطلب الداخلي بدفع الاستهلاك لمزيد التحكم في التضخم .
في جانب اخر، يمكن للبنك المركزي التونسي مزيد التدخل على مستوى السوق النقدية بين البنوك لتعديل سعر الصرف وذلك في حدود مخزونه الاستراتيجي وتبقى في جميع الحالات كل هذه الفرضيات مرتبطة باستقرار الساحة المالية وبمزيد الضغط على العجز المزدوج بمعناه التجاري والمتعلق بالتوازن بين ايرادات البلاد واستعمالاتها تصرفا وتجهيزا .
لا يخفى على احد ان صلابة الدعائم المالية و النقدية للاقتصاد الوطني لها بعد اجتماعي للحفاظ على المقدرة الشرائية وهو ما يشكل مسؤولية مشتركة تقتضي توازن الطلب و التوريد لضمان ديمومة السلم و الاستقرار بعيدا عن مخاطر الهزات و الازمات النظمية خصوصا اذا علمنا اليوم أن تونس في حاجة في غضون السنتين القادمتين الى موارد خارجية قدرتها السلط النقدية بثمانية مليار دينار تونسي كما اعتبرت أن الحاجيات الانية لتسيير دواليب الاقتصاد الوطني يمكن أن تصل الى ملياري دينار وهو ما يحتم تظافر كل الجهود قصد التفكير في حلول لنزيف العملة الوطنية عن طريق التهريب و الواردات العشوائية المكلفة .
كلمات البحث :الدينار التونسي;مراد الحطاب
نعلم قراءنا الأعزاء أنه لا يتم إدراج سوى التعليقات البناءة والتي لا تتنافى مع الأخلاق الحميدة
و نشكر لكم تفهمكم.